[جدة - أحمد مساوى]
عندما نعلم بدخول عيد الفطر المبارك تبدأ ترتيبات اللحظات النهائية لإستقبال العيد حسب عادات وتقاليد كل بلد وكل أقليم وكل عائلة حسبما توارثوها عبر الأجيال ، وفي الحجاز تبدأ المطابخ التابعة لكبير العائلة بإعداد أطباق متنوعة وشهية إستعداداً لإستقبال أفراد العائلة من أبناء وأحفاد على مائدة إفطار عيد الفطر المبارك.
بحكم أن اليوم السابق لعيد الفطر كان في شهر رمضان وكان الوقت المتأخر مرتبط بوجبة السحور يبدأ الشعور بالجوع بالتسلل للناس في وقت السحور (الذي لم يتناولوه بعد) قبل صلاة الفجر عادة ، ويشتد مع تكبيرات العيد التي تسبق صلاة المشهد (صلاة العيد) ويتحرق البعض شوقاً للتوجه لبيت كبير العائلة بعد صلاة العيد لتناول وجبة إفطار العيد والتي يعتبرها المسلمون بمثابة مائدة الإحتفال بالإفطار في فترة الصباح بعد أن كان المسلمون يصومون في هذه الفترة خلال شهر كامل ، لذا تتكون عادة سفرة إفطار عيد الفطر من عدة أصناف تصلح لأن تكون أصناف إفطار وبعضها من أصناف العشاء ، ومن أهم هذه التي تصلح لكل الأوقات طبق " الدبيازة " والذي يُعتبر عروسة سفرة عيد الفطر في الحجاز.
الدبيازة (حقوق الصورة محفوظة للمؤلف)
الدبيازة طبق جانبي حلو غني جداً بالمكونات والفوائد الغذائية الثمينة المستوردة من عدة دول لكن أساس هذا الطبق الذي لا يختلف عليه إثنان هو الـ "قمر الدين" وهو عبارة عن فاكهة المشمش التي تم عصرها وغليها بعد إضافة السكر ثم صبها على ألواح خشبية مدهونة بزيت الزيتون وتُعرض على الشمس للتجفيف ثم تقطع على شكل شرائح جيلاتينية متماسكة ، ويُستورد القمر الدين من بلاد الشام عادة
قمر الدين (الصورة من النت)
ومن الإضافات الرئيسية أيضاً الـ "قلادة" وهي عبارة عن تمر مجفف ومتصل مع بعضه البعض بخيط ليشابه في الشكل القلادة التي ترتديها النساء لكنها مصنوعة من التمر المجفف وطعمها لذيذ ، ومن المكونات الأساسية أيضاً بالإضافة للسكر والسمن نوعية معينة من البهارات الخاصة التي يستخدمها أهل الحجاز في عدة أطباق أخرى وهي التي تعطي هذا الطبق النكهة الحجازية الأصيلة وتفرقه عن الأطباق الأخرى التي تشبهه في المكونات.
قلادة (الصورة من موقع ملتقى أهل العلم)
باقي المكونات إختيارية وتختلف من بيت لآخر ، حيث يضيف الأغلبية اللوز البجلي المقشر المحمص (أو المكسرات) عندما ينتهي طبخ الدبيازة ، ويفضل أن يضيفها البعض عند التقديم على الوجه للحفاظ على قرمشة اللوز أو المكسرات.
يكون قوام الدبيازة سائل ثقيل وطعمه حلو حلاوة المربى ومنعش بسبب تنوع النكهات العجيب ، وتُقدم عادة بدرجة حرارة الغرفة و يتم تناولها بتغميسها بالخبز الحب (البُر) أو الشُريك في الحجاز.
الشُريك (حقوق الصورة محفوظة للمؤلف)
بعد تتبع أصول هذا الطبق وجدت أن الدبيازة تتشابه كثيراً مع المشروب المصري الرمضاني الـ "خُشاف - Khushat" في المكونات والطعم ، غير أن الخُشاف (الذي يُعتبر منقوع التمروالمشمش) يتم تناوله كمشروب رمضاني غني بالفواكه المجففه، ويكون قوامه أخف من الدبيازة عموماً وتُعتبر من المشاريب الغنية التي تغني عن التمر العادي لكسر الصيام وتعطي طاقة مباشرة للجسم بعد صيام يوم كامل.
الخُشاف (الصورة من النت)
وبعد تتبُع الخشاف وجدت أن أصله الـ "هوساف - Hoşaf " العثماني والذي يعني حرفياً (الماء الرائع –Nice water ) ويقدم كمشروب أو مربى غنية بالفواكه المجففة المغمورة في الماء كطبق جانبي مع اللحوم ويصنف من أنواع الماء الثقيل (بين المشروب والمربى) ويُصنف هذا النوع عالمياً بإسم (الكومبوت - Kompot) وتُقدم الفواكه المجففة بالترافق مع اللحوم في الحضارة العثمانية.
وهذا يُفسر تقديم الدبيازة كطبق جانبي متجانس مع طبق الندي باللحم على مائدة إفطار عيد الفطر في الحجاز.
الخلاصة هي أن الدبيازة مثلها مثل غالبية أطباق الحجاز تتكون من خليط من الحضارات والثقافات المسلمة التي صبت جميعها في منطقة الحجاز وتم التعديل وإضافة اللمسات الحجازية عليها حتى أصبحت أطباق حجازية مختلفة عن الأطباق التي تم الإستيحاء منها.
تشابه حضاري:
1- هناك طبق عراقي اسمه "الطرشانة" (الطرشانة أو القيسي معناها المشمش المجفف) مكوناته قريبة من الدبيازة مثل المشمش المجفف واللوز والسكر وبعض البهارات لكن يضيف عليه البعض اللحم والطماطم أحياناً ، وهناك إحتمال كبير أن الطبق مستوحى أيضاً من المطبخ العثماني.
الطرشانة العراقية (الصورة من النت)
2- هناك طبق هندي يتكون من لحم وطماطم وبصل يُطلق عليه نفس الإسم "دبيازة" ويُعتبر مختلف تماماً في المكونات و غير مألوف في الحجاز.
للأسف لم أتوصل لمعلومات موثقة تخص الإسم ، لكنني تخيلت السيناريو التالي:
قبل مئات السنين إجتمع أشخاص مسلمين (من أهل العراق والهند ومكة) سوياً على مائدة إفطار العيد في مكة وكان من ضمن الأطباق "الطرشانة" العراقية (المستوحاة من الحضارة العثمانية) وتعرف الناس على الطرشانة وتذوقوها لكن الشخص الهندي شبهها بطبق الدبيازة من بلده بسبب إحتوائها على اللحم والطماطم وذكر لهم اسم "دبيازة" فما كان من أهل مكة إلا أن أستخدمو الإسم الذي راق لهم أكثر وهو الدبيازة مع المكونات التي راقت لهم أكثر وهي المشمش المجفف والمكسرات والسكر مع إستثناء اللحم الذي لم يرق لهم وأضافوا عليه لمساتهم الحجازية الخاصة ونتج عنه طبق الدبيازة الحجازي (هذا مجرد خيال كاتب لا يمت للواقع بصلة).
ومهما كانت الأصول تضل الدبيازة هي الطبق الأحلى والأجمل المرتبط بعيد الفطر المبارك في مكة والمدينة وجدة.
تتنافس سيدات البيوت عادة في روعة نكهات ولون الدبيازة الذي كلما كان لونه أقرب للون قمر الدين الطبيعي كلما كان أفضل.
تابعوا تأصيل وتوثيق باقي مواضيع أطباق عيد الفطر بصورة كاملة قريباً على "مدونة استذواق"
أو بصورة سريعة ومختصرة على حساباتي في منصات التواصل الإجتماعي مثل الإنستقرام والتويتر والفيس بوك على حساب:
مع خالص تحياتي ،،،
أحمد مساوى
تعليقات
إرسال تعليق